إدمان فرط الأكل

بحوث جديدة على الدماغ توضح لمَ الدهون والسكريات ربما تعمل على دفع الناس أكثر فأكثر باتجاه البدانة.

<.J .P كيني>

أظهرت العلوم الحديثة أن الإفراط في الأكل (فرط الأكل) ليس اضطرابا سلوكيا، مثل فقدان القدرة على التحكم في النفس، وأنه لاينجم عن اختلال هرموني.

وعوضا عن ذلك، يمكن للأطعمة الغنية بالدهون والسكريات أن تسبب شحنا فائقا لنظام المكافأة في الدماغ، الذي يمكن أن يتغلب على قدرة الدماغ الإيعاز للشخص بالتوقف عن الأكل؛ وفي هذه الحالات، كلما ازدادت كمية الطعام التي يتناولها الشخص زادت رغبته أو رغبتها في الازدياد منه.

إن الدواء ريمونابانت rimonabant الذي يخفف من الرغبة في النيكوتين لدى من يتعاطى تدخين التبغ، يمكنه أن يقلل الرغبة في تناول الطعام، إلا أن له تأثيرات جانبية خطيرة. وثمة حاجة ماسة إلى مزيد من العمل لتحديد ما إذا كانت شبكات الإفراط في الأكل في الدماغ تماثل في مساراتها الإدمان على المخدرات، وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن للمعالجات التي تستخدم في الإدمان أن تخفف من وباء البدانة؟

هل سيخاطر فأر بحياته لمجرد إشباع رغبته بالشوكولاتة؟ هذا ما اكتشفتُه مؤخرا. ففي المختبر الذي أعمل فيه أتحنا للفئران قدرا غير محدد من الحصص المخصصة لها من الطعام المعياري، إضافة إلى مقصف صغير (كافتيريا) مليء بالطعام الذي يفتح الشهية والعالي الكالوريات calories, مثل النقانق وكعكة الجبن والشوكولاتة. فما كان من هذه الفئران إلا أن أنقصت من تناول الطعام الصحي، والذي يكاد طعمه يخلو من الحلاوة، واقتصرت في أغلب الأحيان على الطعام المتوفر في المقصف. فزادت أوزانها، وصارت بدينة.

وعند ذلك، عمدنا إلى تحذير الفئران أثناء تناولها الطعام، بإصدار وميض ضوئي، بأنها ستتلقى صدمة مؤلمة على أقدامها. فالفئران التي تأكل الطعام غير المحلّى توقفت – على وجه السرعة – عن المضغ وانزوت بعيدا، أما الفئران البدينة فكانت تواصل التهام الطعام المحلّى مرة بعد أخرى، متجاهلة التحذيرات التي تلقت التدريب على الخوف منها. فرغبتها بالاستمتاع بالطعام المحلى تتغلب على شعورها الأساسي بالبقاء على قيد الحياة.

وقد ضاهت دراستُنا دراسة سابقة أجراها <.B إيڤرتّ> [من جامعة كامبريدج]، إلا أن فئرانه علقت في الإدمان على الكوكايين.

فهل ينطبق ذلك على إدمان الفئران على الإفراط في الأكل؟ والشائع في الإدمان عدم القدرة على كبت أحد التصرفات، على الرغم من عواقبه السلبية. فقد كشف العلماء عن سلوكيات قسرية لدى بعض الناس، إذ يقول البدناء جميعهم إنهم يودون تناول كمية أقل من الطعام، إلاّ أنهم يواصلون الإفراط في الأكل حتى ولو كانوا يعرفون أن تصرفهم هذا قد يعود عليهم بنتائج صحية سلبية صادمة أو بعواقب اجتماعية. فقد أظهرت الدراسات أن الإفراط في الأكل يُفعِّل نظام المكافآت في أدمغتنا وإلى القدر الذي يتغلب فيه لدى بعض الناس على الطاقة الدماغية التي كانت تحثهم على التوقف عن الأكل عندما يصلون إلى حد الاكتفاء منه. ويشبه ذلك ما يحدث لدى المدمنين على الكحول أو على المخدرات، فكلما زادت كمية ما يتناولونه منها زادت الكمية التي يرغبون في تناولها. وسواء كان الإفراط في الأكل يعتبر إدمانا أو لا، فإنه إذا كان يثير في الدماغ الدارات ذاتها التي يثيرها تعاطي الأدوية المسببة للإدمان على المخدرات، فبالطريقة ذاتها، يمكن للمعالجات الدوائية التي تقلل من نشاط نظام المكافآت أن تساعد البدناء على تناول كمية أقل من الطعام.

هرمونات مريبة

حتى بداية تسعينات القرن الماضي، كان المجتمع ينظر إلى البدانة obesity على أنها اضطراب سلوكي: فالأشخاص المصابون بزيادة الوزن يفتقدون إلى قوة الإرادة وضبط النفس. ومنذ ذلك الحين، تغيرت النظرة إلى البدانة تغيرا حاسما، في المجتمع العلمي على الأقل.

وقد نشأ التغير الأول في الآراء عن الأعمال الرائدة التي قام بها <.D كولمان> [من مختبر جاكسون في بار هاربر بولاية مين] و <.J فريدمان> [من جامعة روكفلر]. وجرى تحديد السبب الذي يدفع الفئران إلى الإفراط في الأكل، إثر التجارب التي شملت سلالتين (ذريتين) strains من الفئران، لدى كل منهما ميل جيني إلى البدانة وإلى السكري. وقد اكتشف الباحثون أن إحدى السلالتين لديها عيب جيني في الخلايا الدهنية التي تفرز هرمونا يدعى ليپتين leptin. فالفئران، مثل الإنسان، تفرز هرمون الليپتين بعد تناول الوجبة لكبت الشهية ولمنع الإفراط في الأكل. وقد كان لدى الفئران البدينة نقص في هرمون الليپتين، وعدم ثبات في الشهية. وبعد ذلك اكتشف الباحثون أن البدانة في السلالة الثانية من الفئران قد نجمت عن عيب في الجينات يؤثر في قدرتها على الاستجابة لليپتين وعلى تنظيم عمله. وبدا أن النتائج قد أوضحت بجلاء أن الهرمونات تنظم الشهية، وبالتالي وزن الجسم. فقد يؤدي اختلال الهرمونات إلى الإفراط في الأكل. وفي واقع الحال تنتشر البدانة على نطاق واسع في بعض الأسر التي لديها نقص جيني المنشأ في هرمون الليپتين.

ولكن ملاحظتين اثنتين أشارتا إلى أن النظر إلى البدانة على أنها اضطراب هرموني فيه تبسيط شديد، والملاحظة الأولى هي أن النقص الجيني المنشأ في الهرمونات ذات الصلة بالشهية يقتصر على عدد قليل من البدناء في الولايات المتحدة الأمريكية وفي مناطق أخرى من العالم. والملاحظة الثانية هي أننا نتوقع أن تُظهِر الاختباراتُ التي تجرى على الدم لدى البدناء، إما نقصا في مستويات الهرمونات التي تكبت الشهية وإما ارتفاعا في مستويات الهرمونات التي تزيد الشهية. إلا أن العكس صحيح، فالبدناء لديهم بشكل عام ظاهرة متناقضة، وهي ارتفاع مستوى الهرمونات الكابتة للشهية، بما فيها الليپتين والإنسولين.

ومن هنا جاء مفهوم الدور الذي يؤديه الإفراط في الأكل. فالهرمونات التي تضبط الشهية تؤثر في بعض مسارات النورونات (العصبونات) neurons، في دارات الإطعام، في الوطاء(1)، كما تؤثر تلك الهرمونات في النُّظُم التي تضبط مشاعر المكافأة(2) في الدماغ، وهذا ما يعطي الإحساس بالكمال. فإذا لم تأكل شيئا خلال عدة ساعات، ثم قضيت وقتا طويلا وبذلت جهدا كبيرا وأنفقت أموالا كثيرة للحصول على الطعام، فإنك ستجد مذاق الطعام رائعا! وينطبق على ذلك المثل «الجوع أفضل صلصة»(3).

وخلال فترات الجوع ترفع الهرمونات مستويات من القدرة التفاعلية لدارات المكافأة في الدماغ ذات الصلة بالطعام، ولاسيما في الجسم المخطَّط(4)، ويتضمن الجسم المخطط مستوياتٍ مرتفعة من الإندورفينات(5)، وهي مواد كيميائية تعزز مشاعر اللذة والمكافأة.

وعندما تتناول طعاما، فإن معدتك وأمعاءك تُطلق هرمونات مثبطة للشهية تؤدي إلى إنقاص إشارات اللذة التي تتحرر من الجسم المخطط ومن المكونات الأخرى لنظام المكافأة. وتؤدي هذه العملية إلى جعل الطعام أقل جاذبية، وقد تتحول أنشطتك التي تقوم بها بعيدا عن تناول الطعام وتتجه نحو مسارات أخرى. وهكذا، فإن الهرمونات المنظِّمة للشهية تضبط تناول الطعام، وهي تقوم بذلك جزئياَ من خلال تعديل الإحساس باللذة أثناء الأكل.

إلا أن بعض الأطعمة المعاصرة مثيرة للشهية – غنية بالدهون والسكريات وغالبا ما تكون ذات مظهر جذاب – وتؤثر تأثيرا قويا في نظام المكافأة لدرجة تكفي للتغلب على الهرمونات الكابتة للشهية، فتدفع بنا إلى تناول المزيد من هذه الأطعمة، إذ إنها تنشِّط دارة المكافأة لدينا بقوة أكبر من قدرة هرمون الليپتين على إغلاق الدارة. وقد شعرنا جميعنا بهذا التأثير: فقد تكون قد انتهيت من وجبة عشاء ضخمة، لدرجة أنه صار من الصعب عليك تناول لقمة إضافية، إلا أنك ما أن ترى كعكة الشوكولاتة حتى تجد، وبفعل معجزة، «متسعا» في معدتك لقطعة منها، وتكون هي القطعة الأكثر تحميلا بالكالوريات في يومك.

وهنا مكمن المشكلة، فقد تطور لدينا نظام دماغي كفء يستطيع المحافظة على وزن صحي ومتناسق للجسم وذلك من خلال إصدار إشارات تنبئنا متى نتناول الطعام ومتى نتوقف عن ذلك. إلا أن الطعام المُشهي كثيرا يمكن أن يتفوق على تلك الإشارات ويقود إلى زيادة الوزن.

ويستجيب جسمنا لهذا التفوق برفع مستويات الهرمونات الكابتة للشهية، مثل الليپتين والإنسولين، ويزداد ارتفاعها أكثر فأكثر مع ازدياد وزن الجسم؛ إلا أن الهرمونات تقل فعاليتها بالتدريج مع تطور التحمل لآثارها. وإضافة إلى ذلك، فقد أظهرت دراسات تصوير الدماغ التي قام بها الباحثون في المختبر القومي ببروكهاڤن وفي معهد البحوث بأوريگون أن نظام المكافأة في الدماغ لدى الأشخاص المصابين بازدياد الوزن يستجيب استجابة ضعيفة للطعام، حتى لطعام الوجبات السريعة، وتؤدي الدارات الضعيفة للمكافأة إلى مزاج مكتئب، فكيف يمكن للشخص أن يتغلب على هذه المشكلة؟ ومن خلال تناول المزيد من الطعام اللذيذ طلبا لجرعة معززة مؤقتة، فإن الدارة تتواصل. وهكذا، قد يفرط البدناء في تناول الطعام لمجرد الوصول إلى الدرجة ذاتها من اللذة التي يستمتع بها النحيفون عند تناولهم كمية أقل من الطعام.

ويبدو أن البدانة لا تنجم عن فقدان قوة الإرادة، وأنها ليست على الدوام نتيجة اختلال توازن هرموني؛ ففي بعض الحالات على الأقل تنجم البدانة عن التمتع بفرط الأكل الذي يختطف شبكات المكافأة في الدماغ. وهكذا، فإن فرط الأكل يشبه الإدمان في أنه يُكوِّن عروة من التغذية الراجعة في مراكز المكافأة بالدماغ، فكلما زادت الكمية التي تستهلكها زادت رغبتك في استهلاك المزيد وصار من الصعب إرضاء تلك الرغبة.

ولكن هل يجعل هذا الأمر الأكل الممتع ضربا من الإدمان؟

تَحمل وانتكاس

إن الأدوية التي تسبب الإدمان، مثل المورفين، تنشط نُظُم المكافأة في الدماغ، بالطريقة ذاتها التي يؤثر بها الطعام. إلا أن أوجه التماثل لا تقتصر على هذا الحد. فقد أدى حقن المورفين في الجسم المخطط لدى الفئران إلى فرط الأكل بشراهة، وذلك حتى عند الفئران التي قُدِّم لها الطعام حتى الشبع. وتوضح هذه الاستجابة أن المورفين والمشتقات الأفيونية الأخرى تشبه تأثيرات النواقل العصبية(6) (وهي من المواد الكيميائية الدماغية)، مثل الإندورفينات التي ينتجها الدماغ لتنشيط سلوكيات الإطعام(7).

وقد نتوقع عند ذلك أن الأدوية التي تحصر تأثير الإندورفينات قد تقلل من الإفراط في التمتع بالأكل، وقد أظهرت الدراسات التي أجريت مؤخرا أن المركبات الحاصرة للإندورفين(8) تقلل من تنشيط دارة المكافأة لدى البشر ولدى القوارض التي يقدم لها طعام مثير للشهية، فيأكل الناس والجرذان كمية أقل. ومن ثم فإن محصرات blockers تأثير الإندروفينات يمكنها أيضا أن تقلل من تعاطي الهيرويين والكحول والكوكايين لدى البشر المدمنين على المخدرات، مما يدعم فكرة وجود آلية مشتركة لتنظيم الإفراط الممتع في الأكل وتعاطي الأدوية التي تسبب الإدمان. ومما يدعو إلى الدهشة أن الفئران التي عوّدها الباحثون على تناول الطعام كل يوم تبدي سلوكيات تشبه كثيرا بعد معالجتها بمحصرات الإندورفين، أعراض الانسحاب من الإدمان(9) على المخدرات. ويؤدي هذا السلوك إلى ظهور فرضية مهمة مفادها أن فرط الأكل الممتع يمكن أن يحرض على حالة شبيهة بالاعتماد على المخدرات(10).

وقد أضافت هذه الاكتشافات المزيد من المصداقية إلى الفكرة القائلة إن فرط الأكل قد يتشارك في بعض الظروف في السمات الرئيسية مع الإدمان على الأدوية. وقد شاهدنا التشابه ذاته مع ناقل آخر من النواقل العصبية الأساسية هو الدوبامين(11). فجميع الأدوية المعروفة بأنها تسبب الإدمان تقود إلى إطلاق الدوبامين في الجسم المخطط. وللدوبامين دور أساسي في التحفيز وفي دفع الناس إلى البحث عن الدواء المسبب للإدمان. ويواصل معظم الخبراء القول إن هذا التأثير هو الذي يقود إلى تطور الإدمان، وذلك على الرغم من أن الآلية الحقيقية لاتزال محل أخذ و رد. وقد اتضح أن الطعام المثير للشهية ينشِّط أيضا إطلاق الدوبامين في الجسم المخطط. مما يحفِّز الناس على التركيز على الحصول على الطعام واستهلاكه. وقد أظهرت الدراسات بتصوير الجسم المخطط أن فيه مستويات أحد المستقبلات الذي يدعى «مستقبل الدوبامين (D2R) (12) يستجيب للدوبامين لدى البدناء. وينطبق ذلك أيضا على من يعاني الإدمان على شرب الكحول أو على الأفيون أو الكوكايين أو الأمفتامين(13).

ونحن نعرف الآن أن الذين يولدون ولديهم مستويات منخفضة من مستقبِل الدوبامين D2R معرضون لخطر جيني أكبر للإصابة بالبدانة وبالإدمان على المخدرات. وتؤدي هذه الحالة إلى مستويات منخفضة من النشاط في نُظُم المكافأة في الدماغ، مما يشير إلى أن هؤلاء الأشخاص قد يفرطون في الأكل لا لشيء سوى الحصول على المستوى ذاته من اللذة من الطعام التي يحصل عليها الذين ليس لديهم نقص في مستويات مستقبل الدوبامين D2R. ويتعرض هؤلاء الأشخاص إلى المعاناة من الصعوبة في تعلم كيفية تجنب ما له عواقب سلبية؛ إذ تُسهم النظم الدماغية في كبت السلوكيات التي تعرِّض صاحبها للمخاطر، إلا أن سلوكيات المكافأة، مثل استهلاك الطعام الغني بالكالوريات أو تعاطي المخدرات قد لا يكون لها تأثير فعال بالقدر نفسه.

معركة في الدماغ

الوقوع في شَرك حب الأكل

تحافظ أدمغتنا على الوزن الصحي لأجسامنا بإصدار إشارات حول متى نأكل ومتى نتوقف عن الأكل. وتنظم الهرمونات دارات الإطعام التي تتحكم في الشهية وفي الشبع (الأزرق). إلا أن الطعام الغني بالدهون وبالسكريات يمكن أن يحفز بعض الناس على الإفراط في الأكل (الأحمر) وكلما زادت الكمية التي يتناولونها زادت رغبتهم في الأكل أكثر، وهو شعور شائع في الإدمان على المخدرات.

وتدعم دراستنا المختبرية على الفئران هذه الفكرة، فالفئران البدينة التي أكلت طعام المقصف ولم تعر أدنى انتباه للتحذيرات بتعرضها للصدمة، كانت لديها مستويات منخفضة من المستقبِل D2R في الأجسام المخططة. كما أظهرت دراستنا مع دراسات أخرى استمرار تعاطي المخدرات للفئران المصابة بالإدمان والأكل للاستمتاع حتى عندما تواجه هذه الحيوانات عواقب سلبية. كما يكافح الكثير من الأفراد البدناء كفاحا مريرا وهم يواجهون الخيارات السيئة في طعامهم بالخضوع طواعية لعمليات جراحية تحمل في طياتها الخطر، مثل جراحة المجازة المعدية(19) التي تساعدهم على التحكم في الأكل؛ إلا أنهم في غالب الأحيان يعودون إلى الإفراط في الأكل وإلى زيادة الوزن.

ويبدو أن هذه الدورة في الانغماس بعادات سيئة تمنحهم لذة قصيرة الأمد، ثم محاولة الامتناع عنها ثم العودة إليها في النهاية، شبيهة من حيث إحداثها الاضطراب بإدمان المخدرات. ووفقا للبحوث الأخيرة يبدو أن البدانة تنتج من تحفيز فائق التأثير لإرضاء مراكز المكافأة، وهي مراكز اللذة، في الدماغ. وعلى هذا، فإن الاضطرابات الهرمونية والاستقلابية في البدناء قد تكون من العواقب التي تتلو زيادة الوزن وليس سببا له.

معالجات ممكنة جديدة

لقد قـــادت أوجـه التشابــه بين البدانة والإدمــان بعض الخبراء إلى القــول إن الحالتين ينبغي معــالجتهما بالطريقــة ذاتها. وقد أوصى بعضهم بإدراج البدانة ضمن آخر التحديثات التي أجريت مؤخرا لكتاب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية(20)، الذي يعد إنجيل الطب النفسي، وهو يعرض الدلائل الإرشادية لتشخيص الاضطرابات النفسية، ويُعرف هذا الكتاب بـDSM-5، وقد أثــار ذلـك الاقتراح بإدراج البدانة فيه (في الكتاب) حوارا حثيثا بين علماء علوم الأعصاب والطب النفسي، إلا أن محكِّمي الكتاب أسقطوا تلك الفكرة، تجنبا لوسم البدناء بأنهم من حيث المبدأ مرضى نفسيون.

وقد تم اتخاذ جانب الحذر في ذلك الأمر لأنه على الرغم من وجود نواح متوازية بين البدانة والإدمان، فإنهما يختلفان في نواح مهمة أخرى. فإذا كان الطعام يسبب الإدمان، فينبغي أن يتضمن بعض المكونات الفريدة التي تدفع للإدمان – نيكوتين الوجبات السريعة، إذا صادف ذلك قبولا لديك. وقد أعطت البحوث التي قام بها <.N آڤين> [من جامعة فلوريدا] والراحل <.B هويبل> [من جامعة برينستون] وغيرهم بعض المصداقية لفكرة أن أشكالا خاصة من الدهون أو السكريات قد تكون هي المسؤولة. وقد أشارت دراسة صغيرة أجراها <.D لودويگ> [من مستشفى الأطفال ببوسطن] إلى أن الكربوهيدرات التي خضعت لمعالجة رفيعة المستوى والتي تُمتص بسرعة يمكنها أن تطلق الزناد لرغبات لتناول الطعام. إلا أن البحوث على وجه الإجمال تشير إلى أنه لا يوجد مكوِّن واحد من مكوِّنات الطعام يطلق سلوكيات شبيهة بالإدمان. وفي المقابل، فإن التوليفة التي تضم الدهون والسكاكر مع المكوِّنات ذات المحتوى من الكالوريات يبدو أنها تزيد من الأثر الممتع للطعام إلى أقصى قدر ممكن.

وهـنــــــاك خبــــراء آخـــرون مـنـهـــــم <هشـام زيـــــوديـــن> و<.I ساداف فاروقي >و <.C .P فيلتشر> [من جامعة كامبريدج] لايعتقدون أن التحمل والانسحاب(21) يحدثان لدى البدناء بالطريقة ذاتها التي يحدثان فيها لدى المدمنين على المخدرات. ويجادل هؤلاء الباحثون بأن البدانة والإدمان على المخدرات مختلفان اختلافا أساسيا. ومع أن وجهة النظر هذه مطروحة للنقاش فإن البدناء ينبغي عليهم أن يأكلوا كميات متزايدة من الطعام للتغلب على التفعيل المتضائل لشبكات المكافأة في الدماغ، وفي هذا شبه كبير على ما يبدو بالتحمل. كما أن فقد الوزن يمكنه أن يطلق الزناد للمزاج السلبي والاكتئاب، على نحو يشبه كثيرا ما يعانيه المدمنون السابقون الذين يجربون ممارسة الامتناع، مما يشير إلى أن الانسحاب له تأثيره.

وقد جادل خبراء آخرون بأن فرضية إدمان فرط الأكل برمتها منافية للمنطق، لأننا جميعا على نحو ما مدمنون على الطعام، ولو لم نكن كذلك، فلن نستطيع البقاء على قيد الحياة.

والفرق في البدانة، حسب ما أعتقد، أن الأطعمة الغنية بالكالوريات يمكن أن تثقل شبكات التغذية الحيوية المرتدة(22) بطريقة لا يمكن للأطعمة الأخرى أن تؤثر فيها. وخلال ملايين من سنوات التطور لم يكن اهتمام البشر الأساسي بكبت الشهية بل بالصيد، وبجمع وتنمية الطعام الكافي الذي يصمد في الأيام العجاف. وربما تكون دارات الإطعام لدينا أفضل أداء في التحفيز على تناول الطعام ونحن جياع مما هي عليه في كبت تناولنا للطعام ونحن شبعى. ومن السهل أن نتخيل أن الدماغ سيعتبر الإفراط في تناول الطعام الغني بالكالوريات ذا فوائد هائلة إذا لم يكن من الواضح معرفة متى يمكن أن يتوفر ثانية. ومن الممكن أن يكون هذا السلوك لم يعد تكيُّفيا adaptive، بل إنه صار معاكسا للإنتاج في عالم يتوافر فيه الطعام.

ويثير العلماء الذين يجادلون بآراء تخالف نموذج الإدمان للبدانة نقاطا معقولة، إضافة إلى أنني أخشى أن مصطلح «الإدمان» مشحون بأفكار مسبقة ومعيقة، وذلك على الرغم من أن الأكل القسري والإدمان القسري على المخدرات يبدوان وكأن ثمة سمات مشتركة تجمع بينهما، وأكثر تلك السمات وضوحا عدم القدرة على ضبط الاستهلاك. وعلى العلماء أن يقرروا ما إذا كانت جوانب التشابه تلك هي سطحية أو أنها تنبع من تبدلات مشتركة ومستبطنة في الدماغ. ومن الأمور الأكثر أهمية هي تقرير ما إذا كان نموذج الإدمان مفيدا، فإذا لم يكن مفيدا لنا في تصميم أساليب علاجية جديدة، فإن مناقشته ستكون ببساطة عملا أكاديميا.

ولكي تكون لنموذج الإدمان قيمة، فلابد من أن يكون لدينا تنبؤ دقيق باختيارات المعالجة، والتي تضم معالجات دوائية جديدة. ويأتي أحد الأمثلة من شركة آرينا للمستحضرات الصيدلانية(23) والتي حصلت مؤخرا على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على تسويق دواء يسمى بيلڤيك Belviq لإنقاص الوزن لدى البدناء البالغين أو الزائدي الوزن، وهو دواء ينبه أحد البروتينات الدماغية يسمى مستقبل 2C للسيروتينين(24)، وهو مستقبل ينبه الرغبة في استهلاك النيكوتين لدى الفئران في المختبرات.

sa0913Kenn05.psd

تُسيِّر البدانة قوة تحفيز غامرة تدفع إلى إرضاء مراكز المكافأة في الدماغ؛ أما قضايا الهرمونات، فربما تكون نتيجة وليست سببا للبدانة.

وهناك دواء آخر يسمى ريمونابانت rimonabant حظي في أوروبا بالموافقة على تسويقه من أجل كبح جماح الشهية لدى البدناء. ويستفيد هذا الدواء ممّا يتمتع به القنَّب cannabis من خاصية مشهورة وهي زيادة الرغبة في الطعام، وهو ما يطلق عليه اسم الأَكْوَلَة(25). فالقنَّب ينشط أحد البروتينات الدماغية يدعى المستقبل الشبيه بالقنَّب 1(26)، وعلى هذا فإن الباحثين يخمنون أن تثبيط ذلك المستقبل سيُنقص الرغبة في تناول الطعام. وهو التأثير الذي يقوم به الدواء ريمونابانت بالضبط، ومن الآثار الجانبية الملحوظة قدرته على كبح جماح الرغبة في تدخين التبغ. ولدى الجرذان، ينقص الدواء أيضا من الرغبة في تعاطي الكحول والأفيونات والمنبهات مثل النيكوتين.

وكما هي الحال في جميع الأدوية التي لها إمكانات علاجية، فإن الحذر مطلوب، فالدواء ريمونابانت أطلق العنان للاكتئاب ولأفكار الانتحار لدى بعض الأفراد. وقد دفعت تلك النتيجة السلطات الأوروبية إلى تعليق استخدامه وحضت المسؤولين في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على عدم الموافقة عليه. ولايزال سبب ظهور الاكتئاب غير واضح، وهكذا ونظرا لأن نموذج الإدمان في البدانة قد ينتج معالجات غير متوقعة، فإنه ينبغي أن تحاط تلك الأدوية بتمحيصات شاملة.

وقبل أن يكون بمقدور العلماء الإعلان عن أن فرط الأكل هو إدمان أو غير إدمان، ينبغي عليهم أن يحددوا وبدقة ما هي التكيُّفات في الشبكات أو في الخلايا الدماغية التي تدفع إلى التعاطي القسري للمخدرات، ثم إن عليهم بعد ذلك أن يحددوا ما إذا كانت الآليات ذاتها هي التي تحفِّز التناول القسري للطعام. فمن المحتمل، بل من الغالب أن تؤدي شبكات الإدمان على الكوكايين وشبكات إدمان فرط الأكل أعمالها في أجزاء مختلفة من الدماغ، ولكن بآليات متشابهة. كما ينبغي على العلماء أن يحددوا ما إذا كانت التفاوتات الجينية الشائعة مثل التفاوتات التي تؤثر في المستقبل D2R ستسهم في الإدمان على الأدوية وفي البدانة. وقد يؤدي تعرف مثل تلك الجينات إلى كشف الأهداف الحقيقية للأدوية التي تستخدم لمعالجة هذين الاضطرابين.

وحتى لو أثبت العلماء أن البدانة تنتج من إدمان فرط الأكل، ووجدنا أن ثمة دواء مضادا لهذا الإدمان يمكنه أن يساعد الناس على تخفيف أوزانهم، فسيكون على الأفراد بذل جهود مضنية للتغلب على أحد العوامل التي تبدو متوطنة في أمريكا: فالناس قد يكونون محاطين بأفراد الأسرة والأصدقاء والرفاق في العمل الذين لايزالون مفرطي الوزن، ويواصلون الإفراط في الأكل، مما يجعلهم في البيئة الصعبة ذاتها التي كانوا فيها من قبل. فكما نعلم من حالات التعافي من الإدمان على المخدرات وعلى المشروبات الكحولية، فإن العوامل البيئية هي السبب الرئيسي للرغبة وللنكس. فالمجتمع الغربي المشبع بالدهون وبالرغبات سيجعل من الصعب على كل بدين أن يقلع عن الإفراط في الأكل.


المؤلف

 <كيني> أستاذ مشارك في معهد سكريبس للبحوث في جيوپتر بفلوريدا، ومختبره يبحث في آليات الإدمان على الأدوية، والبدانة والفُصام، وكذلك في الأدوية المعالجة لهذه الاضطرابات.

Paul  Kenny

sa0913Kenn02.psd


  مراجع للاستزادة

Leptin Receptor Signaling in Midbrain Dopamine Neurons Regulates Feeding. Jonathan D. Hommel et al. in Neuron, Vol. 51, No. 6, pages 801–810; September 21, 2006.

Relation between Obesity and Blunted Striatal Response to Food Is Moderated
by TaqIA A1 Allele. E. Stice et al. in Science, Vol. 322, pages 449–452; October 17, 2008.

Dopamine D2 Receptors in Addiction-Like Reward Dysfunction and Compulsive Eating in Obese Rats. Paul M. Johnson and Paul J. Kenny in Nature Neuroscience, Vol. 13, pages 635–641; May 2010.

Obesity and the Brain: How Convincing Is the Addiction Model? Hisham Ziauddeen,
I. Sadaf Farooqi and Paul C. Fletcher in Nature Reviews Neuroscience, Vol. 13, pages 279–286; April 2012.


(1) hypothalamus

(2) feelings of reward

(3) Hunger is the best sauce: «مذاق كل شيء جيد بالنسبة إليك عندما تكون جائعا».

(4) striatum

(5) endorphins

(6) neurotransmitters

(7) feeding behaviors

(8) endorphin blockers

(9) symptom of drug addiction withdrawal

(10) a drug-dependence-like

(11) Dopamine

(12) dopamine D2 receptor

(13) methamphetamine

(14) the prefrontal cortex

(15) Arcuate nucleus

(16) Hippocampus

(17) Nucleus tractus solitarius

(18) the ventral tegmental area

(19) gastric bypass surgery

(20) the Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders

(21) tolerance and withdrawal

(22) biological feedback

(23) Arena Pharmaceuticals

(24) serotonin 2C receptor

(25) munchies

(26) the cannabinoid receptor 1

Comments

comments